Saturday, January 13, 2007

البلوش

البلوش والعرب

لما كانت الحركة البلوشية تعني دول الخليج مباشرة بسبب النتائج المترتبة عليها في حال نجاحها أو فشلها، وللعلاقة التاريخية الوطيدة التي تربط بين البلوش وعرب الخليج، فمن الضروري التوقف سريعاً عند هذه العلاقة. فزعامات البلوش تنقسم إلى ثلاثة أجزاء:

الجزء الأول في القسم الشمالي من بلوشستان الإيرانية.

والجزء الثاني في القسم الجنوبي من بلوشستان الباكستانية ـ وخاصة في مكران ـ وهي التسمية العربية للإقليم بكامله والتي درج البلوشيون على استعمالها. وهذه الزعامات تخضع كلها لما يعرف بـأولاد محمد، المؤلفة من أربعة فروع موزعة في أنحاء الجزيرة العربية. وزعامة"أولاد محمد"تشمل جزءاً كبيراً من بلوشستان كما تشمل القبائل البلوشية الموجودة في عُمان والإمارات والبريمي.

الجزء الثالث في دول الجزيرة العربية. أهمها فرع في سلطنة عُمان بزعامة الشيخ أو المير)حسب التعبير البلوشي(سعيد بن راشد، وفرع في دولة الإمارات العربية بزعامة الشيخ المير مراد آل بركات، الذي يشمل القبائل الموجودة في المناطق الجنوبية الغربية من مكران، وخاصة في الساحل المطل على بحر العرب. وفرع في البحرين بزعامة الشيخ محمد بن حسن آل محمد. وقد ارتبطت زعامته في الفترة الأخيرة بالعمل السياسي أكثر من ارتباطها بالنواحي القبلية الموجودة أصلاً. وقد انتقل في السنوات الأخيرة إلى الإقامة في المملكة العربية السعودية. أما الفرع الرابع فقد اختلط بالفروع الثلاثة عند نزوحها من بلوشستان في عهد نادر شاه في القرن التاسع عشر. فمنهم من اشترك مع سلطان عُمان أحمد بن سعيد في فتح زنجبار، ومنهم من تحالف مع آل كعب في المحمرة في عربستان. ومنهم من تعاون مع آل خليفة عندما كانوا في الكويت وعاونوهم في فتح البحرين وانتزاعها من الفرس.

والبلوش هم سكان القلاع في كل مكان. حتى صاروا يدعون بأهل القلاع. فعندما دخلوا البحرين سنة 1782 ضمن القوات التابعة لأولاد محمد والتي اشتركت مع القبائل العربية الأخرى في الاستيلاء على البحرين من قبضة الشيخ ناصر حاكم بوشهر المدعوم من حكومة فارس، احتلوا القلاع في البحرين وبقوا فيها. وفي العام 1868 ومع بداية الاحتلال البريطاني للبحرين، قامت البحرية البريطانية بقصف قلعتي أبي ماهر وعراد اللتين كان يسكنهما أولاد محمد وأتباعهم. كذلك احتلوا القلعتين الشهيرتين في مسقط ـ الميراني والجلالي ـ عندما استقدمهم السلطان أحمد بن سعيد لمعاونته في فتح أفريقيا الشرقية.

وتغيرت تحالفاتهم مع الظروف السياسية وتقلبات الزمن. وعلى الرغم من علاقتهم العُمانية القديمة، انحازوا إلى السعودية في خلافها مع عُمان حول البريمي أيام السلطان سعيد بن تيمور. أما مقاطعة جوادر الواقعة جنوب بلوشستان على ساحل عُمان فقد ظلت تابعة لسلطنة عُمان وتحت الحكم المباشر للسلطان سعيد بن تيمور والد السلطان الحالي حتى عام 1958، عندما استردتها باكستان في مقابل تعويض مالي قدره ثلاثة ملايين جنيه استرليني، بعد أن كانت مركزاً لاستيراد الرقيق وتجارة الأسلحة وتهريبها طوال النصف الأول من هذا القرن.

وقد حدث تطور خطير في كانون الثاني 1985، إذ عقد لأول مرة في تاريخ البلوش السياسي اجتماع حضره 15 زعيماً من البلوش الإيرانيين، ولم يشترك فيه أي زعيم بلوشي من مناطق أخرى. وكان الاجتماع برئاسة محمد بن حسن آل محمد. وقد قامت السعودية بالضغط على الزعماء البلوش العرب لوقف أية اجتماعات مماثلة مستقبلاً. وكان هذا أول تحرك سياسي علني للبلوش وربما آخر اجتماع.

السبط الضائع

يبقى الحلم بالوطن. صحيح أن الحس القومي الوطني ليس نامياً عند البلوش بالشكل المتعارف عليه عند العرب. إنما كان هناك أمة بلوشية أقامت دولة في الجزء الأخير من القرن الثامن عشر، قبل وصول البريطانيين إلى شبه القارة الهندية وبلاد فارس. والحلم يتجدد اليوم بوطن اسمه بلوشستان، يضم البلوش في باكستان وإيران وأفغانستان.

يكفي البلوش فخراً أنهم يَدْعُون في لغة شبه منقرضة إلى عروبة من لا يتكلم العربية. ألا يكفي أن تطالب هذه الثورة بوطن، كذلك تطالب بلغة، انتسب كل تاريخ أجدادها إليها. إذن لا بد من أن يعيد الوطن الضائع إلى اللسان الأعجمي عربيته بعد أن تاه في مسيرة التاريخ الطويلة ليحقق ذاته ويفرض على العرب الاعتراف بأسباطهم الضائعة.

البلوش في العالم العربي

العدد

البلد

يسكنون في الجنوب الشرقي من مصر / النوبة800.000

مصر

250.000

عُمان

150.000

الإمارات

60.000

السعودية

120.000

البحرين

50.000

الكويت

30.000

العراق

10.000

سورية

10.000

زنجبار

أفريقيا الشرقية 10.000 من ضمن الهجرة العُمانية

تنزانيا

اليمن (لا يعرف عددهم بالضبط بعد انصهارهم مع القبائل اليمنية الأخرى)

أوغندا

000،480،1 نسمة.

المجموع:

اعتمد في سلسلة المقالات على المراجع الآتية:

"تاريخ الشعوب الإسلامية" ـ كارل بروكلمان(ترجمة نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي)دار العلم للملايين ـ بيروت ـ 1955/1956.

"التاريخ السياسي لامارة عربستان العربية"ـ مصطفى عبد القادر النجار ـ دار المعارف بمصر 1971.

"ملوك العرب"ـ أمين الريحاني ـ دار ريحاني ـ بيروت 1952.

"تاريخ الكويت السياسي"ـ حسين خلف الشيخ خزعل ـ أربعة أجزاء ـ بيروت 1962 ـ 1965.

"محاضرات في تاريخ شرقي الجزيرة العربية" ـ أحمد مصطفى أبو حاكمة ـ القاهرة ـ 1967/1968.

"تاريخ العراق السياسي الحديث" ـ عبد الرزاق الحسني ـ صيدا 1957.

"الجذور التاريخية للقومية العربية" ـ عبد العزيز الدوري ـ بيروت ـ 1960.

منشورات "جبهة تحرير عربستان"، و«الجبهة العربية القومية لتحرير عربستان"، و"جبهة الشعب العربي الإيراني المسلم".


"نظر معاوية بن أبي سفيان إلى البجاد بن أوس، الخطيب النسابة، في عباءة رثة وهو يجلس في زاوية من المجلس. فألقى عليه نظرة ازدراء تبينها البجاد فردّ عليه:
يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك.. إنما يكلمك من فيها."
"المستطرف الجديد"
هادي العلوي

بلوشستان واحدة من المناطق البعيدة عن العالم التي يلجأ إليها الضعفاء هرباً من الأقوياء، فإذا هي بلد يتأرجح بين الوطن وبين القبيلة، وتحت كل مظاهر الرومانسية من مناظر البلاد الخلاّبة إلى زعماء القبائل بقاماتهم الطويلة ولباسهم المزركش، إلى أسواق المهربين والقلاع الحصينة في ممرات الجبال، تكمن مأساة الواقع المتمثل بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والانقسام القبلي والاضطهاد الثقافي والعرقي والسياسي عبر العصور.

تقع بلوشستان على الحدود بين باكستان وأفغانستان وإيران. ثلثا مساحتها في باكستان والثلث الآخر في إيران. بلوشستان الباكستانية تقع في أقصى غرب البلاد ويبلغ عدد سكانها حوالى ثلاثة ملايين نسمة، من أصلهم حوالى مليون من الباتان. مساحتها 135 ألف ميل مربع تجاورها بلوشستان الإيرانية التي تبلغ مساحتها 70 ألف ميل مربع، وعدد سكانها حوالى المليون. وهناك تجمع قبلي للبلوش في أفغانستان يقدر بحوالى نصف المليون. كلا الجناحين يشكلان الوطن الذي يطمح إلى الاستقلال كبلد شاسع من الوديان والهضاب الجرداء وكمجتمع بدوي ذي تنظيم قبلي.

والذي يجمع البلوش الإيرانيين إلى البلوش الباكستانيين إلى البلوش الأفغانيين ليس فقط الحلم بوطن واحد، بقدر ما هو إقصاء البلوش الإيرانيين عن مراكز السلطة في الحياة الإيرانية، ولكون البلوش أقلية من السنّة العرب في وسط أكثرية من الشيعة الفرس. يضاف إلى ذلك البلوش المتواجدون في الجنوب الغربي من أفغانستان. ويتطلع كل من البلوش الإيرانيين والبلوش الأفغانيين إلى البلوش الباكستانيين لثقلهم السياسي وتحركهم العسكري، فالولاء عند البلوش هو للعائلة وللقبيلة، لا للدولة التي رسمت حدودها قوى الاستعمار التي أرادت تقسيمهم.

سقط نظام الشاه في إيران تحت أقدام الثورة الخمينية الإسلامية، بعد أن حاول طوال حكم أسرته أن يلغي الشخصية البلوشية. وترك الشاه فراغاً لم تكن بلوشستان الإيرانية مهيأة له. وأدرك البلوش الإيرانيون أن خيارهم مع الثورة الإيرانية لا بد أن يكون خياراً تاريخياً حاسماً، إما إيجابياً بقيام كيان ذي استقلال ذاتي، لا تزال الثورة الإيرانية ترفض التسليم به وبغيره من الكيانات القومية التي تتألف منها إيران، وإما سلبياً بالخضوع لسياسة الشاه القديمة أو الاصطدام بالثورة.

"كعب أخيل"

لقد كانت قضية بلوشستان بمثابة "كعب أخيل" لكل نظام تعاقب على حكم باكستان منذ نشوء الدولة في العام 1947 إلى اليوم. وظلت مشكلة البلوش، مشكلة تهدد استقرار كل حكم عرفته باكستان. حتى احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان واشتعلت نيران الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأصبح الروس إلى شمالهم والأميركيون إلى جنوبهم في المحيط الهندي. وإذا بالبلوش وقضيتهم يصبحان مدار حديث المعنيين بشؤون غرب آسيا، ومثار اهتمام الدوائر السياسية الدولية ـ ما عدا العرب، أقرب الناس إليهم وأكثرهم تأثراً بما قد يحدث على حدودهم.

لقد خاض البلوش حرب مقاومة ضد السلطة الباكستانية منذ تأسيس دولة باكستان العام 1947. الحرب الأعنف قام بها ذو الفقار علي بوتو (والد بنازير بوتو، التي حكمت باكستان فترتين من بعده) عام 1973 وعام 1977 بتحريض من شاه إيران خوفاً من أن تنتقل الحركة الوطنية البلوشية من بلوش باكستان إلى بلوش إيران. لكن بوتو أراد أيضاً في حربه ضد البلوش أن يزيد عمليات التنقيب عن النفط والمعادن في مناطق بلوشستان التي كانت تحد منها وتهددها المقاومة البلوشية. وأسفرت تلك الحرب عن 3300 قتيل باكستاني باعتراف الحكومة. بينما تؤكد "جبهة تحرير بلوشستان" أن الضحايا الباكستانيين كانوا في حدود ستة آلاف قتيل وجريح. ولم يستطع بوتو أن ينقب لا عن النفط ولا عن المعادن. ولم يستطع وقف تصدير البلوش لثورتهم الوطنية إلى إخوانهم البلوش في إيران، حتى جاءت الثورة الإسلامية الإيرنية لتقتلع الشاه، وجاء انقلاب ضياء الحق العسكري ليقتلع بقايا حكم ذو الفقار علي بوتو، ويقوده إلى المشنقة.

قضية بلوشستان بدأت في الظهور بشكل جدّي على سطح الأحداث في غرب آسيا منذ نيسان 1980، إثر فشل محاولة انقلابية ضد نظام ضياء الحق العسكري وحكومته في باكستان، لعب فيه البلوش دوراً أساسياً. قبل ذلك في العام 1968 انقلب الجيش الباكستاني على الرئيس أيوب خان بسبب اتساع التمرد واستمرار الحرب في بلوشستان، الـمُطالِبَة بوقف سيطرة البنجابيين على مقدرات الدولة وبشيء من الحكم الذاتي. وعندما أرسل ذوالفقار علي بوتو (رئيس الوزراء الممثل لمقاطعة السند ونخبة الموظفين السنديين التي تتحكم في أجهزة الدولة) الجيش مجدداً إلى بلوشستان العام 1973، استقال الجنرال غول حسن (الممثل لمقاطعة البنجاب ونخبة الضباط البنجابيين الذين تتألف منهم معظم كادرات الجيش) احتجاجاً على سياسة بوتو في بلوشستان وإقحام الجيش في معركة خاسرة ضد البلوش. فما كان من بوتو إلا أن عيّن الجنرال ضياء الحق ـ البنجابي الآخر ـ مكانه ليقود الحملة العسكرية ضد ثورة البلوش. فيسّر ذلك طريق بوتو إلى المشنقة التي علّقها له ضياء الحق الذي سرعان ما وجد الطريق أمامه سالكاً نحو السلطة.

نمرود وبيلوس

يرد البلوش أصلهم إلى العرب سكان ما بين النهرين وإلى الكلدانيين من نمرود وبيلوس (من هنا جاءت كلمة بلوش) وقد برز الاهتمام مجدداً في بلوشستان منذ الثورة الإيرانية، وقبلها الغزو السوفياتي لأفغانستان، ومن بعدها الحكم الماركسي الجديد في كابول وصولاً إلى الفوضى التي ضربت أطنابها في أفغانستان لاحقاً، حتى استيلاء الطالبان على الحكم، والتمزق الجديد الذي تشهده أفغانستان اليوم. وللمرة الأولى يواجه البلوش فرصة التأثير في الأحداث العاصفة في آسيا الوسطى، لتأكيد شخصيتهم وثقافتهم ولغتهم المميزة وللخروج بحل، إن لم يكفل لهم وطناً فقد يُؤمّن لهم شيئاً من الحكم الذاتي بعد سنين طويلة من التمرد والاضطهاد.

وينظر البلوش إلى وطنهم بحكم موقعه الاستراتيجي النادر نظرة القادر على استعماله كأداة للضغط على كل من باكستان وإيران، على الرغم من كونه أرضاً جرداء. لذلك فهم يرون إجحافاً في حرمان كل من إسلام أباد وطهران لبلوشستان بشقّيها الباكستاني والإيراني من التنمية الاقتصادية عبر سنين طويلة، بالإضافة إلى حملات القمع لأية مطالب بالمساعدة في تطوير المنطقة، وخاصة إذا رافق هذه المطالب شيء من الحديث عن اللامركزية الإدارية ـ حتى لا نقول «الاستقلال الذاتي» لشعب متميز في تاريخه ولسانه وقوميته. وقد دفع فقر بلوشستان المدقع إلى هجرة أكثر من 300 ألف بلوشي للعمل في دول الخليج. ولما كان القتال هو الحرفة التي يجيدها البلوشي في الحياة أكثر من سواها، فقد كان وجودهم في جيوش دول الخليج التي تعاني نقصاً في السكان الأصليين، أمراً طبيعياً. فهم مقاتلون أشداء مسلمون سنّيون، لهم تاريخ طويل وحافل في العمل العسكري منذ أيام الراج البريطاني في الهند.

إن أي نقاش لأهمية البلوش وقضيتهم بالنسبة إلى العالم العربي إجمالاً والخليج العربي ودوله بالذات، ومضاعفاتها، ينعكس على صورة الأوضاع في القوس الآسيوي الممتد من باكستان إلى تركيا. على أن نقطة الانطلاق لا بدّ أن تبدأ من باكستان لا من إيران، حيث إن دور إيران في ثورة بلوشستان هو دور تكميلي. وإذا كان البلوش سيتحولون إلى الثورة التامة والمطالبة باستقلال كامل، فلا بد من تنسيق للجهود بين البلوش في كل مكان. والتنسيق بين النظامين بالنسبة إلى الثوار سلاح ذو حدّين، إذ سيعني أن الحكومتين الباكستانية والإيرانية ستنسقان أيضاً للقضاء على بذور الثورة وامتدادها. والبلوش الإيرانيون كانوا آخر من جاء لتأييد ثورة خميني، وآخر من صدّق أن الشاه قد رحل دون عودة.

لذلك كانت زهدان عاصمة بلوشستان الإيرانية، آخر مدينة في إيران حطّمت تمثال رضا شاه والد الشاه المخلوع. ولم تفعل ذلك إلاّ عندما وصلتها أنباء استسلام الجيش في طهران لأنصار خميني والثورة. بعدها سُحب التمثال بالحبال وحُطِّم. وظل التحفظ البلوشي تجاه خميني وثورته حتى الآن. فلا تجد أكثر من صور صغيرة لخميني في المتاجر العامة. وكثير من البلوش ما زالوا متأثرين بدعاية حكومة الشاه السابقة حتى إن بعضهم كان يقول: "عندما يذهب الملك تأتي الشيوعية. انظر ماذا حلَّ في أفغانستان".


مَنْ يُريد دولة؟

في نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في العام 1988، أُعيد فرز مفاهيم الحركات القومية للشعوب المختلفة التي ترزح تحت حكم الفرس في إيران والبنجابيين في باكستان. وكان لا بد لهذه المفاهيم أن تعيد أيضاً طرح الحلم بالوطن انطلاقاً من حس قومي جديد، بدأ ينمو في الشخصية البلوشية المتمردة على قبيلتها والساعية للتعبير عن شخصيتها الوطنية.

لكن السؤال الذي يطرح اليوم في الأوساط الديبلوماسية وفي أروقة صانعي السياسة الخارجية في العالم هو: مَنْ يريد فعلاً إقامة دولة مستقلة في بلوشستان؟

الجواب عن سؤال كهذا يعني جميع الأطراف ذات الاهتمام الكبير بهذا الموضوع التي تشمل بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران والهند وباكستان ـ ودول الخليج العربي حتى لو أرادت أن تستمر في تجاهل القضية البلوشية. إنما من المؤكد أن الولايات المتحدة والسياسة الأميركية في غرب آسيا لا تؤيد ولا تريد إقامة وطن بلوشي مستقل أو شبه مستقل.

عند سقوط أفغانستان في المعسكر السوفياتي، حاولت موسكو أن تؤثر في مجرى التطورات الآخذة في الانفجار في المنطقة. ولم ينجح الاتحاد السوفياتي في تحقيق هدفه بـإنشاء دولة للبلوش يسيطر على مقدراتها بالطريقة التي نجح فيها في أفغانستان، وفشل في أن يتوصل إلى الطموح التاريخي في فتح طريق برّي من حدوده إلى المياه الدافئة في الخليج العربي والمحيط الهندي.

الحرب العراقية ـ الإيرانية واستمرارها طوال ثماني سنوات أبرزت إلى الوجود القضية البلوشية بشكل حاد وسافر، هدد كل المسلمات القومية والإقليمية التي تعاطت فيها الأنظمة العربية خلال تلك السنوات وعلى الأخص الأنظمة الخليجية. غير أنه يجب النظر إلى أمرين أساسيين في ما يعني الموقف العربي من قضية بلوشستان.

الأول: إن الحركة البلوشية هي حركة قبائل عربية تمتد إلى زمان بعيد، ويمكن كتابة مجلدات في تأكيد عروبة البلوش، وبالتالي فإن العرب أمام موقف ملزم قومياً وعصبياً.

الثاني: إنه إذا لم يحتضن العرب ـ والمعتدلون منهم بالذات ـ قضية بلوشستان، فإن الحركة البلوشية التي كادت تقع تحت النفوذ السوفياتي والتأثير الأيديولوجي الماركسي فترة طويلة، قد تقع اليوم تحت نفوذ الإرهاب الإسلامي الدولي. فبدلاً من أن تقوم دولة عربية وطنية المعالم، ستقوم دولة إسلامية من نوع معين، تأخذ من أفغانستان نموذجاً، ويكون العرب قد أضاعوا الفرصة التي منحهم إياها التاريخ في الحفاظ على عروبة البلوش.

لقد كانت الأنظمة الخليجية، قبل الاستقلال وبعده، متحفظة بل معادية، لأية حركة مطالب للبلوش، إما انسجاماً مع السياسة البريطانية في المنطقة تلك الأيام، أو خوفاً من نظام الشاه السابق في إيران الذي كان يهدد هذه الأنظمة العربية. وبقدر ما كان الشاه يحاول طمس معالم عروبة البلوش، كانت الأنظمة الخليجية نفسها، تحاول أن تبتعد عن المشكلة، إما بتعاميها عنها أو بخنق أية محاولة لتجمعها على أرض عربية. مع الاعتراف بأن نظام خاتمي في إيران اليوم، لن يكون أقل تشدداً من نظام الشاه، ولا أقل "وطنية فارسية" من عرش الطاووس.

هناك قرار لا بد من أن يُتخذ، بقيام وطن بلوشي يعزز ويخدم الأنظمة الخليجية، ويؤكد عروبة الخليج، ويزيد حمايته في وجه الهجرات الآسيوية غير العربية، سواء أكانت من الهند أم الفليبين أم كوريا. والذي يعترف "بعروبة" الصومال وجزر القمر وجيبوتي ـ وربما أريتريا ـ يجب أن لا يجد غضاضة في الاعتراف بعروبة بلوشستان التي لا تحتاج إلى تأكيد أصالتها العربية. وقد يجد العرب في بلوشستان العصر الحديث، كسباً يعادل كسب الفتوحات الإسلامية الغابرة.

تحالفات قبلية

حافظ البلوش في باكستان على زعاماتهم القبلية، أو نظام"السردارات"، حين حافظت بريطانيا عند تأسيس دولة باكستان وتقسيم الهند عام 1947، على كافة الحقوق الإقطاعية التي كانت ممنوحة لهم منذ أيام الملكة فيكتوريا.

ولما كانت بلوشستان مجتمعاً إقطاعياً قبلياً، فإن تحالفاتها كناية عن تحالفات قبلية. وهي موزعة في أربع مناطق رئيسية:

1 ـ بلوشستان الشرقية في باكستان: التي أصبح نضالها مختلطاً بين النضال من أجل وطن قومي والنضال ضد النظام القائم.

2 ـ بلوشستان الجنوبية الإيرانية: التي بدأت تبحث عن وسيلة للتفاهم مع سلطات الثورة الإيرانية من قبل اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية.

3 ـ بلوشستان الشمالية: التي تقع بين أفغانستان وإيران التي اختلط عملها في السابق بين مقاومتها نظام ضياء الحق قبل مصرعه وبين حرصها على ألا تقع في أحضان السوفيات عندما كانوا في أفغانستان. لذلك لعبت دور المساعد للثوار الأفغانيين بحكم عوامل الدين المشترك والضيافة القبلية التقليدية، من دون أن تُحرج علاقاتها كلياً مع موسكو في ذلك الوقت.

زعيم هذا الجناح مولاي عبد العزيز ملّا زاده، الذي يترأس حزب"اتحاد المسلمين البلوش"، ينطلق من ضرورة تضامن السنّة البلوش مع السُّنة الأفغانيين. ومحمد شريف زعيم البلوش الأفغانيين كان يتصل بطهران ويزورها بحثاً عن تفاهم مع الثورة الإسلامية لتشكيل حلف من السُّنة البلوش في أفغانستان مع الشيعة في إيران ضد نظام ضياء الحق السابق في باكستان الخارج عن الإسلام في رأيهم، وسعياً إلى الوقوف بوجه الشيوعية "الملحِدة" الممثلة بالقوات السوفياتية التي كانت تحتل أفغانستان.

وقد أوقعت الحرب في أفغانستان بين قوات النظام الموالي لموسكو والمجاهدين الأفغانيين انقساماً في صفوف الحركة الوطنية البلوشية. زعماء البلوش في حزب"عوامي الوطني"المحظور في باكستان ـ قوات بخش بيزنغو وعطا الله منجل وميرخير بخش مري ـ وحدوا قواتهم في هذا الحزب اقتناعاً منهم أن باكستان التي تحكمها النخبة من البنجابيين ستستخدم القوة للحفاظ على مراكزها ضد القوميات الأخرى كالسنديين والباتان والبلوش.

لكن الحزب انقسم عندما خرج بيزنغو من السجن عام 1978 وألّف حزب"باكستان الوطني"وبدأ محادثات مع نظام ضياء الحق. حتى أنه حاول إقامة تحالف مع حزب الشعب حزب بوتو) أحد أعداء الحركة البلوشية الأصليين. وخسر بيزنغو قواعده الشعبية لدى البلوش من جراء مواقفه المهادنة من النظام. وتشتت شمل الزعماء البلوش الثلاثة، بينما استمرت"الجبهة الشعبية لتحرير بلوشستان"متمسكة بموقفها المبدئي: وهو الاستمرار في النضال ضد النظام الباكستاني عن طريق القتال. لكن الجبهة كانت تؤكد باستمرار التزامها المطلق ورغبتها الدائمة في الابتعاد عن القوى الكبرى خوفاً من الابتلاع.

كذلك انقسم"الحزب الوطني الديموقراطي"بزعامة والي خان، وهو الحزب الذي يمثل المقاطعة الشمالية الغربية الحدودية في باكستان، ويضم تجمع الباتان والبلوش، إلى فريقين: اليسار وأكثره من البلوش مع الثورة الأفغانية. واليمين وأكثره من الباتان ضد الثورة في كابول. اليسار البلوشي أكثر عداء للحكم المركزي في باكستان والحكم الديني في إيران. واليمين الباتاني أكثر تفهماً وتفاهماً مع الحكم المركزي الباكستاني.

No comments: